فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {وَيَتْلُوهُ} اختلفوا في هذه الضمائر، أعني في {يتلوه}، وفي {منه}، وفي {قبله}: فقيل: الهاء في {يتلوه} تعود على {مَنْ}، والمرادُ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكذلك الضميران في {منه} و{قبله} والمرادُ بالشاهد لسانُه عليه السلام، والتقدير: ويتلو ذلك الذي على بَيِّنة، أي: ويتلو محمدًا أي صِدْقَ محمدٍ لسانُه، ومِنْ قبلِه، أي قبل محمد. وقيل: الشاهدُ هو جبريلُ، والضمير في {منه} للَّه تعالى، و{من قبله} للنبي. وقيل: الشاهدُ الإِنجيلُ و{كتاب موسى} عطف على {شاهد}، والمعنى أن التوراة والإِنجيل يتلوان محمدًا في التصديق، وقد فَصَلَ بين حرفِ العطف والمعطوف بقوله: {من قبله}، والتقدير: شاهدٌ منه، وكتاب موسى من قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصل بين حرف العطفِ والمعطوفِ مُشْبعًا في النساء.
وقيل: الضمير في {يتلوه} للقرآن وفي {منه} لمحمد عليه السلام. وقيل: لجبريل، والتقدير: ويتلو القرآنَ شاهدٌ من محمدٍ وهو لسانُه، أو مِن جبريلَ. والهاءُ في {من قبلِه} أيضًا للقرآن. وقيل: الهاءُ في {يَتْلوه} تعود على البيان المدلولِ عليه بالبيِّنة. وقيل: المرادُ بالشاهدِ إعجازُ القرآن، فالضمائر الثلاثة للقرآن. وهذا كافٍ، ووراء ذلك أقوالٌ مضطربةٌ غالبُها يَرْجِع لما ذكرْتُ.
وقرأ محمد بن السائب الكلبي {كتابَ موسى} بالنصب وفيه وجهان، أحدهما وهو الظاهر أنه معطوف على الهاء في {يتلوه}، أي: يتلوه ويتلو كتابَ موسى، وفصلَ بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ. قال أبو البقاء: وقيل: تمَّ الكلامُ عند قولِه: {منه} و{كتابَ موسى}، أي: ويتلو كتابَ موسى فقدَّر فعلًا مثلَ الملفوظِ به، وكأنه لم يرَ الفصلَ بين العاطفِ والمعطوفِ فلذلك قَدَّر فعلًا.
و{إمامًا ورحمةً} منصوبان على الحال من {كتاب موسى} سواءً أقرئ رفعًا أم نصبًا.
والهاءُ في {به} يجوز أن تعودَ على {كتاب موسى} وهو أقربُ مذكورٍ. وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد، وكذلك الهاء في {به}.
والأَحْزاب: الجماعةُ التي فيها غِلْظَةٌ، كأنهم لكثرتهم وُصِفوا بذلك، ومنه وَصْفُ حمارِ الوحش ب حَزَابِيَة لغِلَظِه. والأحزاب: جمع حِزْب وهو جماعةُ الناس.
و{المِرْية} بكسر الميم وضَمِّها الشكُّ، لغتان أشهرُهما الكسرُ، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ جماهيرُ الناس، والضمُّ لغةُ أسد وتميم، وبها قرأ السُّلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي. و{وأولئك} إشارةٌ إلى مَنْ كان على بَيِّنة، جُمِع على معناها، وهذا إنْ أريد ب {مَنْ كان} النبيُّ وصحابتُه، وإن أريدَ هو وحدَه فيجوز أن يكونَ عظَّمه بإشارة الجمع كقوله:
فإن شِئْتِ حَرَمْتُ النساءَ سواكمُ ** وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخًا ولا بَرْدا

و{موعده} اسمُ مكانِ وَعْدِه، قال حسان رضي اللَّه عنه:
أورَدْتُموها حِياضَ الموتِ ضاحيةً ** فالنارُ موعدُها والموتُ ساقيها

. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}
فيه إضمار ومعناه أفمن كان على بينة كمن ليس على بينة... لا يستويان.
والبيِّنَةُ لأقوامٍ برهانُ العِلْمِ، ولآخرين بيانُ الأمر بالقطع والجزم؛ يُشْهِدهم الحقُّ ما لا يطلع عليه غيرهم، كما قلت:
ليلى من وجهك شمس الضحا ** ......................

فالناس في الظلمة من ليلهم ** ونحن من وجهك في الضوء والشاهد

فالذي يتولاه فهو مشاهِدٌ، وفي الخبر: «أولياءُ الله الذين إذا أرادوا ذكر الله...».
قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30]. اهـ.

.تفسير الآيات (18- 22):

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الكافرون قد كذبوا على الله بما أحدثوه من الدين من غير دليل وما نسبوا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الافتراء، أتبع ذلك سبحانه قوله: {ومن أظلم} أي لا أحد أظلم: {ممن افترى} أي تعمد أن اختلق متكبرًا: {على الله} أي الملك الأعظم: {كذبًا} الآية، وهو موضع ضمير لو أتى به لقيل: لا يؤمنون ظلمًا منهم، ومن أظلم منهم أي هم أظلم الظالمين، فأتى بهذا الظاهر بيانًا لما كفروا به لأنه إذا علق الحكم بالوصف دل على أنه علته.
ولما بين أنهم أظلم، أتبعه جزاءهم بقوله استئنافًا: {أولئك} المستحقو البعد؛ ولما كان نفس العرض مخوفًا، بنى للمجهول قوله: {يعرضون} أي لذلك ولدلالة على أنهم على صفة الهوان ومستسلمون لكل عارض، فعرضهم في غاية السهولة: {على ربهم} أي الذي أحسن إليهم فلم يشكروه، العالم بالخفايا فيفتضحون بين يديه بما قابلوا به إحسانه من اللوم: {ويقول} على سبيل التكرار: {الأشهاد} وهم الذين آمنوا بالكتب الشاهد بعضها لبعض المشار إليه بقوله: {ويتلوه شاهد منه} والملائكة الذين شهدوا أعمالهم ومن أعضائهم حين يختم على أفواههم: {هؤلاء} إشارة بأداة القرب إلى تحقيرهم: {الذين كذبوا} متكبرين: {على ربهم} في ادعاء الشريك والولد والتحليل والتحريم وغير ذلك بما عراهم من إحسانه وطول حلمه، وفي الإتيان بصفة الربوبية غاية التشنيع عليهم، فتكررت بهذا القول فضيحتهم عند جنسهم وبعدهم عن كل من سمع هذا الكلام لأنه لا أبعد عن القلوب من الكاذب فكيف بالمجترئ بالكذب على الرؤساء فكيف بملك الملوك الذي رباهم وكل من أهل الموقف مرتقب برّه خائف من انتقامه، وكأنه قيل: فما لهم بعد هذا العذاب العظيم بهذه الفضيحة؟ فقيل: {ألا لعنة الله} وهي طرد الملك الأعظم وإبعاده، وانظر إلى تهويل الأمر باسم الذات ما أشده: {على الظالمين} فكيف بأظلم الظالمين، ثم فصل ظلمهم بقوله: {الذين يصدون} أي يعرضون في أنفسهم ويمنعون غيرهم: {عن سبيل} أي دين: {الله} أي الملك الذي له الكمال كله مع أنه الولي الحميد: {ويبغونها} أي يريدون بطريق الدين الواسعة السهلة: {عوجًا} بإلقاء الشبهات والطعن في الدلائل مع كونها في غاية الاستقامة.
ولما كان النظر شديدًا إلى بيان كذبهم وتكذيبهم، بولغ في تأكيد قوله: {وهم} أي بضمائرهم وظواهرهم؛ ولما كان تكذيبهم بالآخرة شديدًا، قدم قوله: {بالآخرة} وأعاد الضمير تأكيدًا لتعيينهم وإثبات غاية الفساد لبواطنهم واختصاصهم بمزيد الكفر فقال: {هم كافرون} أي عريقون في هذا الوصف؛ والعرض: إظهار الشيء بحيث يرى للتوقيف على حالة، والصد: المنع بالإغراء الصارف عن الأمر؛ والبغية: طلب أمر من الأمور، وهي إرادة وجدان المعنى بما يطمه فيه؛ والعوج: العدول عن طريق الصواب، وهو في المعنى كالدين بالكسر، وفي غيره كالعود بالفتح فرقًا بين ما يرى وما لا يرى، جعلوا السهل للسهل والصعب للصعب؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في النجوى: «يدنى المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف رب أعرف- مرتين، ويقول: سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم، ثم يطوي صحيفة حسناته، وأما الآخرون أو الكفار فينادي على رؤوس الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}».
ولما هددهم بأمور الآخرة، أشار إلى بيان قدرته على ذلك في الدارين بقوله: {أولئك} أي البعداء عن حضرة الرحمة: {لم يكونوا} أي بوجه من الوجوه: {معجزين} وأشار إلى عجزهم بأنهم لا يقدرون على بلوغ العالم العلوي بقوله: {في الأرض} أي ما كان الإعجاز- وهو الامتناع من مراد الله- لهم ولا هو في قدرتهم، لأن قدره على جميع الممكنات على حد سواء.
ولما نفى التعذر بأنفسهم، نفاه من جهة غيرهم فقال: {وما كان لهم} ولما كانت الرتب التي هي دون عظمته سبحانه متكاثرة جدًا، بين أنهم معزولون عن كل منها بإثبات الجار فقال: {من دون الله} أي الملك الأعظم، وأغرق في النفي بقوله: {من أولياء} أي يفعلون معهم ما يفعل القريب من تولي المصالح والحماية من المصائب، ومن لم يقدر على الامتناع وهو حي لم يمتنع بعد موته فكأنه قيل: ماذا يفعل بهم؟ فقيل: {يضاعف} أي يفعل فيه فعل من يناظر آخر في الزيادة، وبناه للمفعول لأن المرجع وجود المضاعفة مطلقًا: {لهم العذاب} أي بما كانوا يضاعفون المعاصي؛ ثم علل سبب المضاعفة بأنه خلق لهم سمعًا وبصرًا فضيعوهما بتصامّهم عن الحق وتعاميهم عنه، فكأن لا فرق بينهم وبين فاقدهما فقال: {ما كانوا} أي بما لهم من فساد الجبلات: {يستطيعون السمع} أي يقدرون لما غلب على فطرهم الأولى السليمة بانقيادهم للهوى من التخلق بنقائص الشهوات على أن توجد طاعته لهم فما كانوا يسمعون: {وما كانوا} يستطيعون، الإبصار فما كانوا: {يبصرون} حتى يعرضوا عن الشهوات فتوجد استطاعتهم للسمع والإبصار، وهو كناية عن عدم قبولهم للحق وأن شدة إعراضهم عنه وصلت إلى حد صارت فيه توصف بعدم الاستطاعة كما يقول الإنسان لما تشتد كراهته له: هذا مما لا أستطيع أن أسمعه، وتكون المضاعفة بالكفر والصد، ونفي الاستطاعة أعرق في العيب وأدل على النقص وأنكأ من نفي السمع لأنهم قد يحملونه على الإجابة، وأما نفي البصر فغير منفك عن النقص سواء كان للعين أو للقلب، هذا إن لم تخرج الآية على الاحتباك، وإن خرجت عليه استوى الأمران، وصار نفي الاستطاعة أولًا دالًا على نفيها ثانيًا، ونفي الإبصار يدل على نفي السمع أولًا.
ولما ثبت أنهم لا سمع ولا بصر، ثبت أنهم لا شيء فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء: {الذين خسروا أنفسهم} أي بتضييع الفطرة الأولى التي هي سهولة الانقياد للخير وصعوبة الانقياد للشر؛ ولما كان العاجز ربما نفعه من كان يخدمه فيكسبه قوة بعد الضعف ونشاطًا بعد العجز، نفى ذلك بقوله عائدًا إلى نفي النفع ممن عذرهم أولًا على أحسن وجه: {وضل عنهم ما كانوا} أي كونًا جبلوا عليه فصاروا لا ينفكون عنه: {يفترون} أي يتعمدون كذبه مما ادعوا كونهم آلهة، ولا شك أن من خسر نفسه ومن خسرها من أجله بادعاء أنه شريك لخالقه ونحو ذلك كان أخسر الناس، فلذلك قال: {لا جرم} أي لا شك: {أنهم} أي هؤلاء الذي بالغوا في إنكار الآخرة: {في الآخرة} ولما كان المقام جديرًا بالمبالغة في وصفهم بالخسارة، أعاد الضمير فقال: {هم} أي خاصة: {الأخسرون} أي الأكثرون خسرانًا من كل من يمكن وصفه بالخسران؛ والإعجاز: الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه؛ والمضاعفة: الزيادة على المقدار بمثله أو أكثر؛ والاستطاعة: قوة ينطاع بها الجوارح للفعل؛ وأما {لا جرم} فقد اضطرب علماء العربية في تفسيرها، قال الرضي في شرح الحاجبية والبرهان السفاقسي في إعرابه ما حاصله: والغالب بعد: {لا جرم} الفتح، أي في: {أن}، ف: {لا} إما رد الكلام السابق- على ما هو مذهب الخليل- أو زائدة كما في: {لا أقسم} لأن في جرم معنى القسم، وهي فعل ماض عند سيبويه والخليل مركبة مع {لا}، وجعلها سيبويه فعلًا بمعنى حق، ف {أن} {فاعله}، وقيل: {جرم} بمعنى حق، وهو اسم لا و{أنهم} خبره؛ وقال الكسائي معناها: لا صد ولا منع؛ وعن الزجاج أنها غير مركبة، ولا نفي لما قيل من أن لهم أصنامًا تنفعهم، وجرم- فعل ماض بمعنى كسب وفاعله مضمر معبر به عن فعلهم، و: {أنهم} مفعولة؛ وقال الفراهي: كلمة كانت في الأصل بمعنى لابد ولا محالة، لأنه يروي عن العرب {لا جرم}- يعني بضم ثم سكون، والفعل- يعني هكذا، والفعل- يعني محركًا، يشتركان في المصادر كالرشد والرعد والبخل؛ والجرم: القطع، أي لا قطع من هذا كما أنه لابد بمعنى لا قطع، فكثرت وجرت على ذلك حتى صارت بمعنى القسم، فلذلك يجاب بما يجاب به القسم، فيقال: لا جرم لآتينك، ولا جرم أنك قائم، فمن فتح فللنظر إلى أصل: {لا جرم} كما نقول: لابد أن نفعل كذا وأنك تفعل، أي من أن ومن أنك تفعل، ومن كسر فلمعنى القسم العارض في: {لا جرم}- انتهى.
فتفسيره لها بالقطع نظر منه إلى أن مادة {جرم} بخصوصها دائرة على القطع، والأصنع تفسيرها بالظن نظرًا إلى ما تدور عليه المادة من حيث هي- بأي ترتيب كان- من جرم وجمر ورجم ورمج ومجر ومرج، وإنما جعلتها كذلك لأنهم قالوا جرم النخل: خرصها، وأجمر النخل أيضًا: خرصها، ورجم- إذا ظن، والمجر: العقل، ويلزم الظن اتقاد الذهن ومنه جمرة النار، والجرم- للأرض الشديدة الجر، ويلزم الظن أيضًا اجتماع الفكر، ومنه الجمرة للقلبية وكل ما شاكلها في الجمع، ومنه الجرم بالكسر وهو الجسد فإنه بالنظر إلى جميعه، والصوت أو جهارته فإنه يجمع فيه الحلق لقطعه، ويلزم الاجتماع أيضًا العظمة، ومنه أجرم- إذا عظم، والجمير كأمير: مجتمع القوم، ومن الجمع الرياء والعقل، فينشأ منه الصفاء، ومنه: {مارج من نار} أي لا دخان فيه، ومنه أجرم لونه: صفا، ومن الاجتماع المجر- بالتحريك، وهو أن يملأ بطنه من الماء ولم يرو، والكسب، جرم لأهله- إذا كسب، ومنه الذنب فإنه كسب خاص، ويمكن أن يكون من القطع لأنه يقطع صاحبه عن الخير، ويلزم الاجتماع أيضًا الاستتار ومنه أجمرت الليلة- استتر فيها الهلال، والمجر لما في بطون الحوامل من الإبل والغنم، أو يجعل هذا مما يلزم نفس الظن من الخفاء، ومن الاجتماع الضمور، أجمر الخيل: أضمرها، وشاة مجمرة: مهزولة، ويلزم الاجتماع الصلابة والتمام، ومنه حول مجرم كمعظم: تام، فينشأ الافتراق، ومنه تجرم الليل: ذهب، وابنا جمير كأمير: الليل والنهار، أو يكون ذلك من لوازم القطع كما يأتي؛ ومن الاجتماع الرجم الذي هو الخليل والنديم، ويلزم الظن الفصل بين الأشياء، ومنه جرام النخل لصرامها؛ والجمرة: الحصاة، فيلزم مطلق الرمي فينشأ الرمي بالجمار، وهي الحجارة فينشأ القتل للمرجوم، وهو يرجع أيضًا إلى نفس القطع، فإنه قطع النفس عما كانت عليه، ويلزم الفصل القذف والعيب؛ والرماج كسحاب:
كعوب الرمح لانفصال بعضها عن بعض، والرمج بالفتح وهو إلقاء الطير ذرقه، ويلزم الظن المبالغة في النظر فتأتي المبالغة في الكلام والعزيمة، ومنه المرجام للماد عنقه في السير من الإبل، وأجمر: أسرع في السير، وقد يلزم الظن الحيرة، ومنه حديث مرجم كمعظم: لا يوقف على حقيقته، فيلزم حينئذٍ الذنب والفساد والقلق والاضطراب، ومنه أمرج العهد: لم يف به، أي جعله مارجًا مزلزلًا، وعلى الاضطراب تدور مادة {مرج} بخصوص هذا الترتيب، أو الترميج: إفساد سطور بعد كتبتها، ويلزم الظن الاختلاط، ومنه الجرم للون لأنه لا يخلو عن شوب، وأجرم الدم به: لصق، والإجرام: متاع الراعي، أو هي من الكسب، والجرام كرمان: السمك؛ والمرج: موضع الرعي، وقد علم من هذا أن جميع تصاريف المادة تدور على الاضطراب وهو بين في غير العقل، وأما فيه فإنه يقدر العقل يكون اضطراب الرأي لأن العاقل كلما أنعم النظر انفتح له ما كان مغلقًا فيعدل إليه، فإذا ظهر هذا ظهر أن معنى {لا جرم} أنهم لا ظن ولا اضطراب في أنهم، ويكون نفي الظن في مثل هذا السياق نفيًا لجميع ما يقابله إلاّ العلم الذي هو بمعنى القطع كما إذا قيل: لا شك في كذا ولا ريب، فاتضح أن تفسيرهم لها ب {حقًا} تفسير معنى لمجموع الكلمتين لأنه إذا نفي في مثل هذا السياق الظن ثبت اليقين والقطع، وإليه يرجع تفسير سيبويه لا حق لأنه يريد- والله أعلم- أن لا صلة، وموضوعها في الأصل النفي، فهي نافية لضد ما دخلت عليه، فكأنه قيل: حق وثبت أنهم كذا وانتفى كل ما يضاده، فهذا وجه كونها صلة مؤكدة، وقريب من ذلك ما قيل في {إنما} نحو إنما زيد قائم، أي أن زيدًا قائم، ما هو إلاّ كذلك، فقد بان أن النافي مثل ذلك مؤكد- والله الموفق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة، فمنها شدة حرصهم على الدنيا ورغبتهم في تحصيلها، وقد أبطل الله هذه الطريقة بقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} [هود: 15] إلى آخر الآية، ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته، وقد أبطل الله تعالى بقوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} [هود: 17] ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله، وقد أبطل الله تعالى ذلك بهذه الآية، وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله تعالى، فلما بين وعيد المفترين على الله، فقد دخل فيه هذا الكلام.